المسمية الكبيرة

المسمية الكبيرة ـ قرية فلسطينية تقع عند تقاطع الطرق الرئيسية الثلاث القدس ـ يافا ـ غزة

الأحد، 18 أغسطس 2013

مشاهد من نكبة فلسطين ترويها ذاكرة أجيال عاشوها وطردها الاحتلال الإسرائيلي ـ مروا من قرية المسمية


 "من مديـنة إلى مخيم، ومن شارعٍ لآخـر طاردتنا قذائف المـوت.. رمت عليـنا حمـم رُعبـها وحـقدها.. لم تـرحم طفلا ولا شيخا، مـزقوا الأجسـاد وشـوهوا الطُرقات.. هدمـوا البيـوت على ساكنيـها.. زوجتي الحامل في شهرها الرابع قضت نحبـها.. كان القتـل يُباغتنا بالجمـلة، فيصحب العشـرات والمئـات.. ما أصعبـها من لحظات وأقسـاها من أيام.. مرارة التشـريد وشبح الضياع لم يُفارقنا.. لم نكن وقتها نعي شيئا إلا أن نكبـةً كبيـرة أصابتنا".

هذه الشهادة المرويـة بصوت الـوجع لم ينطق بها أحد الأجداد الفلسطينيين متحدثا عن ذكريات نكبة فلسطين وحكاياها المخفية والمنسية، إنما هي ذاكرة الحاج أحمد بدر اليمني الأصل، والذي تجاوز الـ110 سنوات.

القصـة تفتّحت أوراقها مع بدايات عام 1936 حين شـد الحاج رحاله هو ومجموعة من صحبه منطلقا من مسقط رأسه قرية "بارق" باليمن إلى السعودية، ومنها لبيت المقدس ثم ليافا عروس البحر المتوسط التي اختارها سكنا له، لكن نكبة عام 1948 بعثرت استقراره وأمنه وأخرجـته من يافا لتتلقفـه أحد مخيمات اللاجئين بقطاع غزة.

بلهجة يمنية خالصة لم تستطع الأيام الفلسطينية أن تغيرها، أشار إلى أنه ترك قريته "بارق" باليمن وهو صغير، وذهب للسعودية مع من كان يسافر إلى موسم الحج مشيا على الأقدام: "وقتها لم تكن الطائرات أو السفن مـوجودة، وهناك أديت مناسك الحج، ومن ثم سرت إلى المدينة المنورة.. كنا نستريح بالنهار ونبدأ المشي بعد العصر حتى ساعات الصباح إلى أن وصلنا القدس عام 1936".

وبابتسـامة أضاءت وجهـه المُغطـى بالتجاعيد أردف يقول: "لأننا نحب الله ورسوله نشدنا هذه الأرض.. نحن (البهاليل) أي المُرابطون في سبيل الله".

ومكث بدر بالقدس قرابة الستة شهور لينتقل بعدها ليافا: "لم أكن أعرف أحدا.. كنت كالتائه بالصحراء غير أن إمام أحد الجوامع في سكنة "أبو كبير" بيافا آواني عنده وأغدق علي ووجد لي عملا.. وزوجني ابنته في بيتهم الكبير".

وبينما الحاج بدر يعيش أجمل أيامه بين أناس اعتبروه ابنا لهم، وتحت سماء يافا الهادئة وأشجارها الوارفة، إذ بالنـور يغشاه الظـلام، والأحلام تستحيل إلى كوابيس: "في عام 48 بدأت عصابات الاحتلال تدخل يافا لتهجير الناس من بيوتهم، وعصابات أخرى تهدم المنازل على ساكنيها".

صمت الحاج لحظات تنهد بعدها طويلا.. أغمض عينيه وبألم تابع الحكاية: "هرولت لأرى زوجتي ووالدها وأهلها فإذا بالبيت كومة تراب.. كلهم ماتوا.. زوجتي الحامل في شهرها الرابع ووالدها و15 فردا من أهلها".

فجأة ترقرقت دموع الحنين في عيونه: "حزنت على زوجتي ملكة.. كانت اسما على مسمى".
وبهـدوء بدأ ينبش بالذاكرة: "كنت أريد إزالة ردم البيت لأدفنهم، لكن العصابات حاصرتنا، وأخذت تطلق علينا الرصاص والقنابل، فتركنا المكان ولذنا بالفرار".
ويصف يافا حينها بـ"مدينة الموتى والأشباح.. بكل ركن ومكان كانت رائحة الموت تنتظرنا".

عـلى الفـور قرر الحاج بدر الانضمام للمجاهدين، فتطوع مع مجموعة بلغ عدد أفرادها 51 مجاهدا، ويضيف: "زادت حدة الضربات علينا، وبدأت الدبابات تقصف بكل اتجاه؛ فبدأنا بحفر الخنادق بمنطقة تل الريش في يافا لنحتمي بها ونقاتل".
ولمّا أصبح وجودهم بالمنطقة خطرا توجهوا لباب الواد بالقدس ثم إلى يبنا: "وهناك بدأت العصابات في مهاجمة الأهالي وتشريد وإبادة كل من بالقرية".
غبـارٌ ونار
من "يبنا" خرج الحاج هو ومجموعته إلى "حلحول" بقضاء الخليل، ومنها لقرية "خراس" لتنتظرهم معركة أخرى.
استوقفنا ذاكرته لنسأله عن شعوره آنذاك، وإذا ما تمنى لو بقي باليمن، فردّ بثقة: "بكل فخر أنا ابن فلسطين.. في عروقي دماء فلسطينية رغم أني يمني الأصل.. ثم هل يندم من يجاهد في سبيل الله ى؟!".
نفس عميق رتب الحاج من خـلاله أوراق القصة ليعود بنا إلى قرية "خراس": "كان الاحتلال بانتظارنا، وكانت القرية قد تحولت لجبال من الغبار والنار.. أخذنا نحارب حتى استشهد العديد منا، ظلت قوات الاحتلال تطاردنا".
ومن ركنٍ إلى آخر أخذ يفر من أنياب الموت حتى وصل قرية المسمية بقضاء غزة، ليقص على مسامعنا ألمًا جديدًا: "في المسمية كان التعب قد نال منا.. جلسنا نرتاح فنمنا بمسجد القرية واستقبلنا الأهالي بحفاوة.. مكثنا ستة أشهر وبعدها أظلمت الدنيا؛ حيث وصل جنود الاحتلال بأسلحتهم ومدفعياتهم فأقلقوا منام القرية وأحالوا هدوءها إلى عواصف".
نسفوا البيوت والمساجد
بعد صمت طويل، أضاف الحاج بدر وقد لامست العبرات جفونه: "هجّروا أبناء القرية.. نسفوا البيوت ودمروا المساجد على رءوس مصليها.. لم يتركوا حجرا ولا شجرا.. كانت أيامًا عصيبة لم يرحموا فيها أحدا وواصلوا ضربهم للقرية لنهاجر ونتشرد مع من تبقى حيا إلى قرية أسدود".
وبعد وصولهم "أسدود" تم الإعلان عن إبرام هدنة وإرسال قوات الحماية المصرية، ولاح شعاع الأمل في قلوب الكثيرين، لكنه سرعان ما انطفأ قبل أن يولد: "انقض اليهود على القرى مجددا، وبدءوا يقصفونها بالطائرات والمدفعية، وتركز القصف على سكان مدينة المجدل وبلدة أسدود لمدة ثلاثة أيام.. مات من مات وتشرد من تشرد".
بعد سيل الأحداث الساخنة تلك تجمع الحاج مع مجموعة من ستة عشر فلسطينيا وسبعة مصريين وخمسة من الجزيرة العربية (اليمن والسعودية) محاولين الهرب، وفي مدخل المجدل وجدوا الدبابات الإسرائيلية تنتظرهم ليقعوا أسرى.
ويبدو أن الحاج كان على موعد ليشاهد بأم عينه أكثر من مدينة وقرية؛ حيث حطت قدمه هذه المرة أسيرا في قرية "أم خالد" التي يطلق عليها الإسرائيليون اليوم "نتانيا".
وحول أسوار أحد المساجد زج اليهود به وبمن معه، وأحاطوا المسجد بأسلاك شائكة، وفي المئذنة كان أحد الحراس يراقبهم مصوبا عليهم رشاشه.
أنا ابن يافا
قوات الاحتلال طالبت الحاج بدر هو ومن معه بإزالة ردم البيوت في "أم خالد"، وهنا يهدأ صوت الشاهد على النكبة، ويُتمتم بُحزنٍ كبيـر: "لم تكن قرية.. كانت أكواما من الحجارة المهدمة.. تمنينا أن نجد بيتا سليما.. أكثر ما آلمنا رؤيتنا للجثث المتفحمة تحت الأنقاض، خاصة الأطفال".
وبعد أن مكث سبعة أشهر خرج الحاج في تبادل للأسرى مع اليهود ورُحِّل من جسر بيت حانون إلى قطار العريش بمصر، وهناك أخذ المصريون أسراهم لتأخذهم بعدها شرطة العريش وأرسلت الحجازيين إلى بلادهم والفلسطينيين أرجعتهم إلى فلسطين.
ويوضح أنه أُعيد إلى فلسطين كونه يحمل الهوية الفلسطينية، واستقر به الحال في بلوك 12 بمخيم البريج للاجئين وسط غزة حتى اللحظـة، وأكمل في هذا المخيم مشوار حياته؛ حيث تزوج وأنجب خمسة أولاد وثلاث بنات.
ومع أنه يجلس في رحاب بيت يلفه بالحنان والدفء، لكن حلم العودة لا يزال يداعب مخيلته، ولا زال قلبه يهفو ليافا.مازحناه بأنها ليست مدينته، وأن موطنه
اليمن، فأجابنا: "لا، يافا مدينتي.. ضمتني واحتوتني.. صحيح أنا يمني ولكني ابن يافا".
وكمن يحدثنا بقلبه، أكد أنه حتى آخر يوم في عمره لن ينسى يافا: "أحن إليها.. إلى شوارعها، إلى أشجارها وبيوتها.. إلى شقشقة عصافيرها وزهر ليمونها".

المصدر / موقع فلسطين الآن
http://www.paltimes.net

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق